أمنياتُ مؤجّلة.. للأبد.

db36c20c64eb8f09277611b377928fe2

عادةً، تكون التمشياتُ الطويلة، مساءً بالخصوص، مزرعة خصبة لإيقاظ الأمنيات والحسرات المؤجّلة من أثر غاز النّوم الذي ترسله مشاغل وزوائل الحياة.. لا يلزمُ أبداً أن أكون على فراشِ الموت لأتفوّه بترّهات عن أمنياتي المؤجلة للأبد، فها أنا.

مثلاً، أتمشّى في شارعنا الطويل في هدوء بالغ مستمعاً إلى موسيقاي مغنّياً معها بصوتٍ عالٍ بلا مبالاة، فتلجمني للصمت ذكرى ما.. تمنيتُ لو أنني قد أسرعتُ بخِطْبةِ تلك الفتاة الرقيقة جداً، قبل أن تُخْطَب لفتى بينهما مودّة عميقة.. لو كنتُ استمعتُ إلى النصائح ولم أمتنع (لأنني لستُ بهذه البراعة بعد)، ألم أكن لأصدر كتابي الأوّل قبل أربع سنوات أو خمس، وربما لكان انتشر وباع؟ ماذا عن تلك الرّحلة إلى مكان ناءٍ جداً والتي ألغيتها لداعٍ تافه اسمه (شغل الامتياز)؟ ألم أتمنَّ كثيراً الانطلاق والابتعاد؟ ما منعني الآن؟ هو الحُمق وضيق النظر ليس إلا.. ماذا عن ذلك الكتاب؟ تلك السمّاعات القيّمة جداً؟ أن أتعلّم بعض “البلاي ستيشن”، أو أن أتعلّم المشي على كورنيش مسطحٍ مائي ما وإلى جواري فتاةٌ أحبّها؟ ما منعني أن أفعل هذا كلّه؟

 

تعتنقُني موسيقاي وأعتنقها، كعاملٍ حفّاز لا وزن له، فأتذكّر أن الخيار –قبل ثماني سنوات- كان في يدي في أن أغادر الكليّة وأبدأ مشواراً جديداً في مكانٍ ما.. أبي؟ وما المشكلة؟ كان هذا مستقبلي أنا لا مستقبله، وهو قد مات بعدها بعامٍ ونصف بأيّ حال. بالتأكيد لن يهنأ في عُلاه بمرآي أعلّق المحاليل لمريض متشكك لأخرس أهله. لو كنتُ تكلّمتُ وقتها بما لديّ، ألم أكن لأبقيهم إلى جواري؟ لو كنتُ فهمتُ ماذا عنى ذلك الرجل بكلامه وقتها، ألم أكن لأوفّر على نفسي ستة أشهر من الانتظار وعاماً ونصف من الانكسار؟ ألم أكن أحمق حقّاً؟ لم يكن ضرورياً بالمرّة أن أتشاجر مع الرّفاق وقتها، أو أن أكون سخيفاً متعنتاً جداً في ذلك الموقف.. لم يكن يجبُ أن أغضبَ منها، لربما كان عليّ أن أتفهم، حتى أنا نفسي تصيبني مثل تلك الأطوار.

هل كان صعباً حقّاً أن أجد لي أسلوب حياةٍ خاصّاً أعيش به بدون ذلك الإحساس الحقير المتواصل بالذّنب؟ أليس اللهُ غفّاراً وأليس يعلم ما في قلوبنا؟ ما هذه القوانين كلّها؟ لماذا ألقي اللائمة على القوانين الآن؟ قبل بضع سنوات، ألم أكن أراقب نفسي أبداً؟ ألم أرّى أي دراماتيكيّ أنا؟ ألم أرى مدى سخفي، سذاجتي وضيق معرفتي واجتماعيّتي، حتى أخفّف ألم فراقهم لي وبُعْدَهُم؟

ألم يكن أولى بي أن أنفق آلاف الجنيهات في سنواتٍ ماضية على ابتياع أطنان الكتب التي أستنزف نفسي فيها الآن؟ لربّما نقلتني إلى نقطةٍ أخرى أبعد؟ لِمَ لَمْ أنتقل إلى القاهرة حيث مئات الآلاف من الفرص، ولم أدع نفسي للحياة تتخبّطني لبعض الوقت لربّما أنضج؟ أين ذهبت أحلامي في أن أحقق في حياتي شيئاً ضخماً قبل العشرين أو الخامسة والعشرين، والآن أخطو زاحفاً في حسرة إلى باب السادسة والعشرين، ولا شيء؟

كيف كتبتُ هذا كلّه في سبع أو ثماني سنوات، وما أزال لم أقفز من مكاني كثيراً؟ ما الذي كنتُ أكتبه بحقّ السموات؟ ماذا كنتُ أفعل؟

ما كلّ هذه الأسئلة؟ لِمَ الآن؟ حمق، المزيدُ من الحمق، حمق متولّد عن حمق عن فراغ.. أكتب في سخفٍ وبلا مشاعر عن أمنياتي المؤجّلة للأبد، بلا فائدة حقيقيّة.. ربما لأعتنق ذلك الاكتئاب المحيط المتسلل ببطء، ربما لأحرّك مِرْجَلَ المشاعِر.. صار الهوس الآن هو أن أنْتِج، وإن اقتطعتُ من لحمي لأقّدم. هل يستحقّ هذا العبث كلّ هذا أصلاً؟

 

محمد..

أضف تعليق