ثاني رواية أقرأها لنجيب محفوظ..
الرواية هذه المرة ترمي بشكل أساسي لحكي جانب من معاناة وآلام هؤلاء الذين آمنوا بثورة يوليو فقط لتفترسهم آلتها الديكتاتورية لاحقاً، قبل النكسة بعامين أو أقل حتى بعد النكسة بمدة مشابهة..
سياسياً: يتبدى لي أن محفوظ لم يكن متحمساً جداً لثورة يوليو وربما عاداها كذلك بعد ما تبدّى له من جانبها المظلم، وإن لم يبدُ لي أنه يُفَضّل الحديث عن ذلك كثيراً وفضل أن يظهر من خلال سطور هذه الرواية.. عرض هو الكثير من وجهات النظر الشائعة والسائدة في مرحلتي ما قبل النكسة وما بعدها بنوع من الحيادية وإن بدا جليّاً كونه خصماً للثورة فيما وضع من معاناة في حكايات أبطال القصة جميعاً، لم يحاول الدفاع عنها إلا من جانب إنساني بحت لا من جانب سياسي زينب دياب مثالاً)، وجعل الطرف الوحيد المدافع هو من كان مستفيداً من جبروت النظام قبل سقوطه المريع (أعني خالد صفوان)حيث وضع ضحاياه في نفس التصنيف معه: “كلنا مجرمون وكلنا ضحايا” رافضاً الاعتراف بجرائمه صراحة وجاعلاً من نفسه ضحية.. غير أنه يبدو أن محفوظ فقط قرر تغليب حسه الأدبي فجعل رأيه في تلك المرحلة عملاً أدبياً قصيراً اسمه (الكرنك)..
أدبياً: الرواية جيدة جداً كعادة عم نجيب، عم نجيب بطبعه وطبيعته روائي باحتراف الرواية صنعته وعمله الأفضل والأوحد، تجده يستعين بالأسلوب الكلاسيكي في الرواية (بداية – وسط وأحداث وعقدة – نهاية “وإن كانت مواربة نوعاً” ).. عمد محفوظ إلى الرمز للوسط السياسي في تلك الفترة الزمنية ب(الكرنك) رامزاً ربما لعراقة مصر كأرض واتساعها للكل ووجودها هي هي مهما تغيّر الشخوص.. وربما أجرؤ على القول أنه رمز إلى شخص مصر الاعتباري بقرنفلة صاحبة المقهى: إمرأة من زمن الفنّ الجميل أحالتها الثورة إلى التقاعد فصار عملها الوحيد إدارة المقهى في هدوء وربما الوقوع في هوى بعض الشباب أحياناً (ربما كنوع من الأمل في أن يُجددوا شبابها!)وجعل حدادها الصامت على حلمي حمادة رمزاً لحداد مصر الصامت على شبابها الذين دهستهم الثورة تحتها..
أتقن محفوظ تصميم شخصياته وجعل كلاً منها بيدقاً يعبّر عن فئة ما من شعب ذلك الزمان وربما إن راجعت الرواية ستفهم قصدي أكثر..
كسرد فإن أسلوب محفوظ كعادته سهل خفيف مشوّق يحببك فيما في يدك لتقرأه، ألفاظه كلها سلسة طبيعية ومن عمق البيئة التي يتحدث عنها، يتقن جعل كل شخصية تتحدث بلسانها، غير أن لمحفوظ بعض لمسات سحرية أسلوبية من حين لآخر، بسيطة في اللفظ رائعة في المعنى.. (وأيقنت أنه من العبث أن تناقش عاشقاً في عشقه)..
رواية (الكرنك) قد تبدو لك للوهلة الأولى بسيطة جداً لا بداعة أو جديد فيها يُضاف لمحفوظ، غير أنني أحسب أنه أبدع جداً في الترميز فيها وفي تكثيفها بهذا الشكل، وفي إيصال كل ما أراد أن يقوله في حوالي مائة صفحة تقريباً، في أسلوب بسيط بعيد عن كلاكيع السياسة أو عُقَد الأدباء.. :)
رحمك الله عمّ نجيب :)
محمد الوكيل
A.M.Revolution
من بروفايلي على Goodreads بتصرف بسيط