بسم الله الرحمن الرحيم
فقدتُ منذ فترة لا بأس بها قدرتي على الانبهار بأي شئ، وصرتُ أعدّ أي شئ يستعيد لي تلك القدرة شيئاً من الروعة والأهمية في ذكرياتي بمكان.. لذا قررتُ هذه المرة أن أحكي عن ذلك الاحتفال الذي حضرته بالأمس 21 مارس بقاعة المؤتمرات بكليتنا المصون، الاحتفال الثقافي السنوي الذي يقيمه زملاؤنا الماليزيون بالكلية والذي يجمعهم وزملاءهم الدارسين في الأزهر ومن الكليات الأخرى.. وستفهم حالاً لِمَ استحقّ هذا المكان..!
دعاني للحفل صديق ماليزي بالسنة الثانية بالكلية هو (أحمد الغزالي) –تحدثتُ عنه سابقاً كما أذكر-، قررتُ الحضور لظنّ في داخلي أن هذا الذي سأحضره سيكون شيئاً مختلفاً.. لم أهتمّ لحاجز اللغة كثيراً فإجادتي للإنجليزية كانت لتسمح لي بتواصل سهل مع الشباب الماليزيين، كنتُ آتياً فقط للتعرف على المزيد من الأصدقاء ولاهتمام شديد داخلي بمعرفة المزيد عن ثقافة وتفكير ومجتمع هؤلاء القوم :))
توقعتُ عند دخولي الكثير من المضيفين والمستقبلين وقوفاً مع أطنان من الزينة والبهرجة هنا وهناك، وكان هذا عكس ما لقيتُ تماماً، فتاتان على البوابة الرئيسية للإشراف فقط على دخول الزوار وبعض شباب على باب قاعة المؤتمرات استقبلني أحدهم، شاب أسمر مهذب ألقيتُ السلام عليه بالعربية وسألته عن مكان القاعة فأخبرني. دخلتُ ليقابلني مشهد العديد من (الستاندات) يقف عليها شباب وفتيات يبيعون تذكارات وسلعاً خفيفة مختلفة.
حلّ بعد وصولي بقليل وقت صلاة المغرب، فوجدتُ الشباب يتخذون موقفهم على حصير مفروش في جانب من مدخل القاعة، بنظام وبساطة شديدتين، هكذا دخلت في الصف الأخير وجاورتُ أخّاً ماليزياً وجدته مشكوراً يفرش لي كوفيّته على الأرض لأسجد فوقها كي لا تلامس رأسي البلاط البارد، فأجبرني على أن أندهش وأسعد حقاً بفعلته البسيطة اللطيفة تلك.. وبينما أصلّي انتبهتُ للموقف: أصلّي برفقة أناس لا أعرفهم ولا يعرفونني ولا نتكلم حتى اللغة نفسها، لكننا جميعاً نتشارك في التكبير والتأمين وتُتلى علينا الآيات نفسها ونمارس الشعائر نفسها.. شعرتُ حقاً بروعة أن تكون مسلماً، وأن تشعر أن إخوانك في هذا العالم الكبير كُثُر.. :)
كان من ضمن تلك الاستاندات اثنان أو ثلاثة على كل جانب لتوزيع ما بدا لي طعام الغداء للضيوف قبل الحفل، كان الشباب والفتيات يقفون في طوابير ويتلقّى كلّ منهم بعض الأرزّ الأبيض وقطع اللحم المُبهَّر في طبق من الفوم بداخل كيس صغير.. ولأنني كنتُ في شوق للتجربة طلبتُ أنا وصديقي المصري صفوت من أحمد الغزالي أن يناولنا القليل، وهو ما حدث وجلسنا نتناول وجبتينا مع الغزالي وبعض زملاء آخرين منهم (أيمن دان)، (ذو الكفل)، (نجيب)، (ذو الفَهم).. ما أزال أستمتع كثيراً بمجرد سماع أسمائهم، ربما سأعيش وأموت قبل أن أجد مصرياً يسمي ابنه (ذو الكِفل) :))
ولأن أيمن دان في السنة الرابعة مثلي وجدتني أتبادل الحديث معه أكثر، كان متقناً للإنجليزية فوجدتُ التواصل بيننا أسهل ما يمكن ووجدته هو ودوداً بشكل مدهش فصحبني من بعدها وطوال الحفل حتى نهايته..
ودعني هنا أحكي لك قليلاً عن الطعام نفسه ومراسم الأكل، ببساطة شديدة: الشباب يلتفون في حلقة كبيرة أو يجلسون على السلالم، يتناولون الطعام بأيديهم وبتواضع مدهش ومهارة، إن شبع أحدهم وتبقى منه طعام يلفّه ببساطة في الكيس المرفق مع الطبق ويضعه في كيس أسود كبير مخصص، ويعيد الطبق للمنظمين ليُعاد استعماله كما أخبرني أيمن، وهو ما اندهشتُ له حقاً.. وكل مصري يقرأ هذا يعلم أننا نفعل عكس هذا كله تماماً، والله حليم ستّار بقى :))
الطعام نفسه ليس أكثر من أرزّ أبيض عادي وقطع لحم بالبهارات، كان الأرز بلا طعم تقريباً بدون البهارات وأظنهم لا يضيفون فيه مِلحاً كما نفعل، لذا كنتُ أخلط الأرز بقطع اللحم وآكل الاثنين معاً.. ولأول مرة منذ سنوات أمارس متعة حقيقية اسمها الأكل باليدّ! :))
بعد الطعام، صحبني أيمن دان إلى داخل القاعة وأجلسني بجواره قبل بدء الحفل بدقائق، ولاحظت أن التنظيم بسيط جداً ولكنه في منتهى الدقة والنظام، وحتى الأشخاص نفسهم ضيوفاً أو منظمين يبدون كأنهم منظمون بالفطرة ويفعلون ماذا يفعلون تماماً وأين يذهبون ويجلسون، ولم أجد في الزينات وإعدادات الحفل أي بهرجة زائدة أو تكاليف باهظة، بعض أدوات وأشياء بسيطة زهيدة الثمن تتحول بأيدٍ ماهرة إلى عمل احترافي بارع..
وقد بدأ الحفل بخطبة طويلة نوعاً لعضو سابق بالبرلمان هو (الدسوقي كليب) بترجمة للماليزية من شاب هادئ هو (محمد شفيق) الذي تعرفتُ عليه لاحقاً.. وكانت الخطبة عن أمور عدة منها أزهى عصور الخلافة وبعض تراثيات وبعض عبارات عن التكاتف بين المسلمين وضرورة طلب العِلم والتعاون في سبيله. طالت الخطبة كثيراً وبدأت الترجمة تصعب على شفيق خاصة مع استشهاد الرجل بأبيات شعرية تحتاج من المترجم لأن يكون دارس أدب عربي! كنتُ من حين لآخر أشرح بعض ما يقول الدسوقي لأيمن، ووجدتُ منه تجاوباً واهتماماً شديداً :)
انتهت الخطبة ثم بدأ بعض أعضاء اتحاد الطلاب الماليزي بطنطا والجمهورية في الظهور تباعاً على المنصة لإلقاء كلماتهم بهذه المناسبة.. لم أفهم كلمة بالطبع غير أن أيمن كان يشرح مضمون الكلمات باختصار لأكون في الصورة. وبعد أن انتهى (عبد العزيز بن علي) رئيس اتحاد الطلاب الماليزيين من إلقاء كلمته حانت لحظة افتتاح الحفل، تلك التي كانت مبتكرة لأبعد حد: منصة مرتفعة عليها شعار اتحاد طلاب الطب الماليزيين تحتها صندوق صغير مفرّغ مفتوح فتحة مستطيلة من أعلاه، لم أفهم تماماً أهميته سوى لحظة الافتتاح حين وضع عبد العزيز بن علي مفتاحاً رمزياً كبيراً في فتحة الصندوق، فبدأ شعار الاتحاد يدور حول محوره بحركة هادئة مبهرة للوهلة الأولى! انبهرتُ حقاً بتلك اللمسة الذكية من المنظمين!
بعد ذلك بدأ عرض تقديمي على الباور بوينت عبارة عن صور جماعية كثيرة في حالات مختلفة لطلبة ماليزيين تحكي فيما يبدو ذكريات عزيزة جداً لديهم، بتصميم احترافي رائع يليق بذكريات كتلك، بدا أمامه كل عرض تقديمي مصمم بأيدٍ مصرية لعب عيال :))
ثم بدأ تقديم فقرات الحفل، وتولى ذلك شابان ماليزيان أحدهما يمثّل الجنس الصيني في ماليزيا (يُدعى محمد سازاريان) والآخر الجنس الهندي، حيث شرح لي أيمن أن ماليزيا فيها جنسان بشريان غير الماليزيين العاديين (مالاي) هما الماليزيون الصينيون والماليزيون الهنود، أو حسب ما فهمت! ^^
وكانت الفقرة الأولى في الحفل من نصيب فرقتي إنشاد، قدمتا بضع أناشيد باللغة الماليزية وأخرى بالعربية –لم أفهم منها شيئاً كذلك ^^” –، وقد قدمتا عرضاً رائعاً أمتعنى فعلاً، أذكر أن الثورة السورية وقضية فلسطين كانتا موضوعين رئيسيين في عدد من تلك الأناشيد، وكانتا بصفة عامة تيمة مميزة للاحتفال ككلّ.. أسعدتني فكرة أن تكون ثورة سوريا مركز اهتمام بالنسبة لهم :)
ثم بدأ الجزء المُسلّي جداً من الحفل: استعراض عبقري لفنّ قتالي ماليزي نسيتُ اسمه للأسف، ظهر فيه حوالي عشرة شباي يرتدون ثياباً مميزة ويشتبكون بشكل فنّي في معارك بدت حقيقية جداً بالصرخات القتالية القوية والأسلحة والحركات السريعة البارعة من الشباب، والتي أثارت حماسي بالإتقان العالي فيها والذي حوّل الأمر كله لما يشبه قتالاً حقيقياً تترقّب نهايته بفروغ الصبر! ذكرتني إحدى الإشتباكات بالعصيّ بالتحطيب :))
تلا ذلك استعراضان راقصان طويلان، أحدهما بدا في الأسلوب والأزياء كالرقصات الصوفية، غير أن تلك كانت أكثر براعة، كان تزامن حركات الشباب ورقصاتهم ودقاتهم على طبولهم الصغيرة يعطي الإنطباع أنهم يقرأون أفكار بعضهم البعض، أو على أقل تقدير تدربوا على ما يفعلون منذ شهور! أما الاستعراض الآخر فكان لمجموعة أكبر من الشباب غير أنهم كانوا جلوساً أرضاً هذه المرة، ينشدون بالماليزية ويؤدون بآلات مختلفة غير وترية.. ما أبهرني في الاستعراض بعد تلك الحركات المتناسقة والأداء الواثق المندمج هو البساطة المطلقة في كل شئ، كمؤثرات وأزياء وإضاءة وكل شئ آخر..
دامت الاستعراضات الراقصة مدة حوالي الساعة والنصف أو الساعتين، وتخلل كل فقرة فقرة قصيرة للسّحب على جوائز مختلفة للحاضرين.. أحببت الفكرة ووددتُ لو كنتُ حصلتُ على شئ ولو كان كوباً :)))
وكانت الفقرة الأخيرة في الحفل ثلاث مسرحيات قصيرة مختلفة الموضوع، شارك فيها كلها أحمد الغزالي مع مجموعة من الشباب الآخرين، كانت الأولى عن ثورة سوريا، وقد أبهرني حقاً الأداء وانفعال الشباب الممثلين وكذلك المؤثرات البصرية الجيدة على بساطتها،وكانت الثانية تحكي قصة مجموعة طلاب ماليزيين انتقلوا للدراسة في الأزهر بالقاهرة، بشكل ما شعرتُ أن الأزهر يمثل لمسلمي ماليزيا قيمة كبيرة، فرغم أن المسرحية كانت كوميدية إلا أن فرحة الطلاب بانتقالهم للأزهر بدت شيئاً حقيقياً وانفعالاً صادقاً يبدر عن أي شخص قد تواتيه الفرصة للدراسة في الأزهر، وبشكل ما يبدو الأزهر شيئاً معظماً جداً في قلوبهم..!
وكانت المسرحية الثالثة والأخيرة عن الحدود في الإسلام وظروف وأحوال تطبيقها..! والحقيقة أنني تعجبتُ لهذا الموضوع الأخير خاصة.. أبداً لم أجد أعمالاً فنية ولو حتى من تيارات إسلامية تناقش هذه القضية بالذات، وبدا لي هذا العرض فكرة جيدة جداً في الواقع.. :)
استمرّت كل تلك الفعاليات حتى الثانية عشرة من صباح يوم كتابة هذه السطور، 22 مارس! وبنهاية العرض انتهت تجربة استمتعت فيها بكل لحظة ورأيتُ فيها كثيراً مما هو مسلٍ ومختلف جداً عن كثير مما رأيت.. ربما لا أبالغ حين أقول أن احتفالاتنا الطلابية لا تقارن بشئ كهذا، احترافية عالية بأقل قدر من الإمكانيات وبأقل تكاليف ممكنة وبدون إسراف، وبنظام شديد اتبعه الجميع باحترام كامل، قدر هائل من الإمتاع والبراعة في إعداد كل فقرة على حدة ومتابعة جيدة من الجمهور الذي تخطى الألف على أقل تقدير، ومع كل هذا تلقائية وبساطة شديدة في التعامل.. تكفيك عاداتهم في الطعام وتبسطهم حتى مع غير الماليزيين بل وإقبالهم على التعرف عليك والحديث معك رغم صعوبات اللغة واختلاف الأجناس.. الكثير من الودّ والتواضع الصادق والنظام، والحياء الواضح من الفتيات والابتسامة الملازمة للشباب فيهم..
ربما ما أزال أجد صعوبة في تمييز الوجوه، لكن ما تزال الأسماء عالقة بذهني ومعتزّ جداً بكل شخص صادقته في هذا الحفل.. (أيمن دان) رفيق الكفاح في رابعة وزميل الموسيقى اليابانية ومترجمي :)) ، (ذو الكِفل)، (ذو الفهم)، (نجيب)، (محمد سازاريان) الشاب الكوول :)) ، (محمد شفيق) المترجم الصبور، (عين الدِنّ) الطالب بالسنة الأولى الذي تعاني إنجليزيته صعوبة، (أحمد) الشاب الأزهري الذي فرش لي كوفيّته لأسجد، وربما لن أنسى هذا الموقف على بساطته.. :)
شباب، أنتم رائعون جداً، ولم أندم على دقيقة من وقتي معكم، ولسوف أكون أسعد بأن أراكم دائماً إن شاء الله.. فلتعدّوا مصر وطنكم الثاني، وأعدكم صادقاً أن أكون لكم أخاً فلا تشعرون بالغربة :)
شكراً..
محمد الوكيل
A.M.Revolution