أدب رحلات؟

للحظة بينما أجلس إلى طاولة ما في الكلية لا أفعل شيئاً غير التحديق في الفراغ، فكرت: ماذا لو اضطرتني الظروف يوماً للسفر في بلد جديد علي تماماً لا أعرف منه حتى اللغة، معي حقيبتي المهترئة وبعض كتب وأوراق وقلمين، ومجموعة ثياب تكفي مبيت أسبوعين، ونقوداً، ألفا دولار أو ما يقارب؟ فجأة أجد نفسي في شوارع مزدحمة لكنها نظيفة، في وضح النهار على رصيف في منطقة تجارية؟

image

الحق أنني صرت اخاف التغيير والحركة وبشكل مبالغ. يعني؟ حتى أخاف من السفر للقاهرة الحبيبة في رحلة سريعة لتأدية مهمة ما.. فما بالك بدولة أخرى؟ تخيل الأمر يفزعني بشكل ما. لكن سأحاول.. سأمرن عضلات خيالي بإسقاط سريع على ما يمكن أن يكون سيناريو حقيقياً يوماً.
مبدئياً سأنظر إلى الساعة بنفس اللهفة المعتادة.  وقت الظهيرة، وأنا وحدي أحمل متاعي الوحيد من الحياة على ظهري.. ماذا أفعل إذاً؟ إيجاد طعام لن يكون أول ما أفعل فلست أحب أن أفتتح طعامي بلحم خنزير مثلاً. سأحاول معرفة البلد أولاً ولن يكون هذا صعباً. ثم سأبدأ بالتفاهم مع أقرب شخص يشتبه أن يكون ودوداً قادراً على تقديم المساعدة وليس بلص. الإنجليزية ستكون مناسبة وربما لغة الإشارة أيضاً. ربما سأرسم له على الأوراق بعض ما أريد حتى يساعدني.. يجد لي طعاماً مثلاً؟ ربما مسجداً؟ هكذا أجد بعض طمأنينة وراحة ومن يتحدث العربية وطعامٍ آمن. ربما أتخذه بيتاً مؤقتاً حتى تتيسر الأحوال. سأبدأ بالسؤال عن المدينة التي أنا فيها، بعض المواصلات، أثمان المهمات من الأشياء وسعر غرفة سكن بسيطة قريبة من المسجد آوي إليها وأتخذها مقراً للحركة، ثم سأحاول الاتصال بالأهل، ثم آوي إلى ركن وأكتب. هل تظن أنني أستغني عن الكتابة في مكان كهذا؟ هذا آخر مكان يمكن ألا أكتب فيه: أرض غريبة.

سأنام ثم أصحو، أجد لنفسي طعاماً وأصلي، ثم أبدأ مغامرتي في المدينة الواسعة. سأتذكر مكان المسجد جيداً أولاً وربما أبتاع خريطة، ثم أستقل مواصلة عامة لا سيارة تاكسي، النقود لن تكفي للأبد كما تعلم، وأنزل في محطة عشوائية ما. أتجول في الشارع ببطء متأملاً التفاصيل ووجوه الناس الذين كانوا في ظروف أخرى ليكونوا “أجانب”، أبتاع بعض العاديات والأدوات المفيدة وأحاول أن أقتصد ما استطعت.. محملاً بما اشتريت أتوجه إلى أقرب حديقة، وألقي متاعي على العشب وأتمدد تحت ظل ما لا ألوي على شيء. أتحسس الهواء الجديد شبه النظيف الذي يبج رئتيّ وأقارن مجبرا ًبين حيث كنت أعيش وهذا المكان.. تكفي تماماً المقارنة بين الهواء في المكانين.
ماذا بعد؟ أجرب أطعمة جديدة طبعاً! لطالما كان طموحي الأول زيارة أطعمة البلاد قبل البلاد نفسها! وها أنا ذا في مطعم متوسط الحال في وسط المدينة أجرب أكثر طبق شيوعاً وآكل وأستسيغ. أتخيل الطعام حراقاً إلى حد ما وأتلذذ بذلك، كطعم مغامرة مفاجئة في صيف حار.

أعود إلى المنزل المؤقت ركضاً فقط لأن هذا هو تصوري عن الاستمتاع بالحركة في مدينة مزدحمة نظيفة! أرقد ما أمكنني وأصحو على وقت المغرب فأصلي ثم أنطلق مرة أخرى إلى المدينة. حياة الليل تجربة مهمة وكل مدينة هي مدينتان فيما يخص تقلب الليل والنهار. لا خمور ولا نساء طبعاً وحتى لو أردت فلا مال يكفي. هكذا أكتفي بفنجان قهوة بالحليب غنيّ في مقهى ما في وسط المدينة أشاهد التلفاز العملاق أمامي، وبالطبع أكتب. لا تكون كاتباً حقيقياً ما لم تجرب الكتابة في مقهى أو على رائحة وحرارة كوب من القهوة ولو مرتين على الأقل في حياتك. وفي مدينة كهذه الأمر لابد سيختلف. ربما سأطلب فنجاناً آخر أضعه على المقعد المقابل وأتخيل نفسي أسامر فتاة ما قد تكون صديقة أو حبيبة. بشرط أن تكون من أهل البلد، ومحبة للقهوة، وأتخيل أي حوار ومواقف قد تدور بيننا في جلسة كهذه.
عودة للبيت ومحاولة للنوم بعد تفكير قصير فيما يمكن أن أفعل للأيام القادمة قبل نفاد مالي.. لا أدري،قد أصادق البعض وقد أجرب الذهاب لبحر قريب لا نهر، وربما أزور معلماً سياحياً طبيعياً كجبل أو سهل أخضر أو صحراء. وفي كل ذلك سأحاول أن أجد الأرخص والأنظف قدر الإمكان وربما المجاني، يقولون أنك تستطيع أن تجد لنفسك البهجة بالقليل من المال وحتى من دونه إطلاقاً، ولا أفضل من مكان كهذا غريب فيه لاختبار صدق المقولة، لكنك بالطبع لن تستطيع العودة لبلدك بدون مال، فسوف يكون المتبقي كافياً بالكاد للعودة.

وأنا في مقعد طائرتي العائدة، لن يتبقى معي من المال ذرة، وسوف تجتمع عندي الكثير من الذكريات دقيقة الصنع صنعتها يداي وقدماي وعيناي، والكثير من الأوراق التي ربما تصلح نواة لافتتاح نشاطي في أدب الرحلات. ربما سيهم بعضهم معرفة أي خيال دار في ذهني بينما أنا جالس إلى مقعد مقهى مع فتاة ما.. أو لماذا كنت أركض في الطرقات عائداً، وكيف كان طعم تلك الوجبة.. ربما سيعجب بعضهم أن يقول في تشبيه اللذة: كطعم مغامرة مفاجئة في صيف حار.

محمد الوكيل
A. M. REVOLUTION